المتعارف عليه أن الدول النامية تتسم بانخفاض مستوى الدخل الفردي، ورغم أن الدخل الفردي الحقيقي يعطينا أفضل مقياس للتفرقة بين الدول، فإنه يبقى غير كاف للدراسة التحليلية لظاهرة التخلف والتنمية الاقتصادية؛ وبالتالي فإن القاسم المشترك الأكبر الذي تتسم به الدول النامية والمتخلفة، كونها تعتمد على الزراعة بالدرجة الأولى في تلبية احتياجات مواطنيها؛ حيث يسود الاعتقاد أن الدول النامية هي دول زراعية في حين أن الدول المتقدمة هي دول صناعية.
ولهذا نجد أن القطاع الزراعي يستأثر بالجزء الغالب من النشاط الاقتصادي في الدول النامية؛ وذلك بعكس ما عليه الحال بالنسبة للدول المتقدمة التي تُوفّق بين القطاعين بحيث يساهم كل منهما، تبعا لطبيعته البنائية، في التنمية الاقتصادية باعتبارها عملية مستمرة في تحسين مستوى معيشة السكان.
وإذا حكمنا جدلا بأن التصنيع هو العامل الديناميكي في عملية التنمية الاقتصادية، فإن ذلك لا ينبغي أن يخفي عنا أهمية دور الزراعة في التنمية؛ على اعتبار أن العلاقات الاقتصادية متشابكة ومتداخلة فيما بينها، ويبدو التساند والتكامل والترابط بين الزراعة والصناعة أكثر قوة ووضوحا. ولهذا فقد نالت الزراعة مكانة كبيرة في الفكر الاقتصادي وعرفت طرح نماذج نظرية كثيرة تبرز كلها مدى مساهمة الزراعة في مد القطاع الصناعي باليد العاملة وبعض المنتجات الخام إلى جانب توفير مصادر مالية لتوظيفها في تغطية احتياجات الصناعة ،كما أن الفائض الزراعي يمكن نقله إلى القطاع الصناعي، لتمويل الأجور مثلا.
ولهذا يعتبر القطاع الزراعي من بين القطاعات الأساسية في الدول النامية، وذلك نظرا للدور الذي يلعبه هذا القطاع في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، سواء من حيث استيعاب اليد العاملة، أو المساهمة في تكوين الدخل القومي وتوفير العملة الصعبة لهذه الدول، ولو أن ذلك يختلف من دولة لأخرى، انطلاقا من اختلاف ظروف كل دولة؛ إلا أن هناك اعترافا متزايدا بأن وجود قطاع زراعي قوي وآخذ في التوسع والنمو أمر لابد منه، ولا يمكن الاستغناء عنه من أجل التنمية الاقتصادية. كما أن زيادة معدل التصنيع يتطلب توفير عنصر العمل وتوفير المواد الأولية وحتى رأس المال، وطبعا فإن مهمة القطاع الزراعي هي تلبية هذه المتطلبات.
ولهذا يبدو أن زيادة الإنتاج الزراعي ضرورة حتمية حتى تساهم الزراعة في مجالات عديدة في التنمية الاقتصادية. حيث يمكن للفائض في الإنتاج الزراعي الناتج عن ارتفاع معدل الإنتاجية الزراعية أن يلبي الاحتياجات المتزايدة لسكان القطاعات غير الزراعية من السلع الزراعية أو استثمار جزء من الدخول الزراعية في القطاعات الأخرى، وبالمقابل يرتفع نتيجة لذلك طلب السكان الزراعيين على السلع والخدمات التي توفرها القطاعات الأخرى نتيجة لارتفاع دخولهم، وهذا من شأنه المساهمة في توسيع سوق القطاعات غير الزراعية.
فعلى مر التاريخ الاقتصادي لم توجد دولة واحدة تحولت من الركود الاقتصادي إلى مرحلة الانطلاق دون أن تكون قد حققت قدرا لا يستهان به من التحسن في الإنتاج الزراعي.
على اعتبار أن الزراعة هي أول الأنشطة الاقتصادية وبدونها لا يمكن أن تقوم للحياة قائمة، فإذا كانت تعد مصدرا رئيسيا للمواد الغذائية وغيرها من المواد، فهي كذلك مسؤولة عن إمداد سكان الاقتصاديات الأخرى غير الزراعية بالغذاء والكساء، بالإضافة إلى إمداد القطاعات الأخرى بكثير من المواد الإنتاجية، مثل رأس المال والمواد الأولية والموارد البشرية التي تحتاجها؛ ولهذا فإن تخلفها يحد من تقدم القطاعات الاقتصادية الأخرى.
فالزراعة في أي اقتصاد معين يمكن أن تساعد في دفع عجلة التنمية، وبالتالي التقدم الاقتصادي، كما يمكن أن تكون عكس ذلك، إذا لم تنل العناية والاهتمام الكافيين.
واستنادا للشواهد التاريخية المتوفرة فإن الزراعة الأمريكية واليابانية وغيرهما من الدول المتقدمة مثلا، قد قامت بدور فعال في التنمية الاقتصادية لمختلف القطاعات، وأن الزراعة في هذه الدول قد عرفت تطورات ملحوظة قبل أن تبدأ الخطوة الأولى في التصنيع؛ بحيث ساعدت هذه التغيرات الزراعة بأن تمد الصناعات النامية بالعمل، وفي مجالات كثيرة جاء رأس المال المستثمر في الصناعة من القطاع الزراعي .
بينما في أغلب الدول النامية ما تزال الزراعة متخلفة وغير فعالة، لأنها لم تنل العناية اللازمة عند القيام بمشاريع التنمية الاقتصادية، نظرا لسيادة الاعتقاد بأن تنمية الصناعة هو العامل الفعال في عملية التنمية الاقتصادية، وأن التقدم هو حالة مرادفة للتصنيع. ولهذا السبب فقد كرست اهتمامها الكبير بالصناعة، وفي المقابل تقاعست عن تطوير زراعتها وتحديثها.
حيث كان بعض الاقتصاديين يعتقدون بأن الاستثمار في مجال الصناعة هو العامل الديناميكي في عملية التنمية الاقتصادية، كما كان الساسة يرددون ذلك؛ بحجة أن
التقدم في نظرهم هو مرادف للتصنيع، خاصة وأن تخلف دولهم اقترن بالزراعة التي ظلت لعهود طويلة بمثابة النشاط الاقتصادي الأساسي لهذه الدول. وقد ترتب على ذلك أن ساد الاعتقاد لدى المهتمين بالشؤون الاقتصادية، بأن تنمية الإنتاج الزراعي أمر من السهل تحقيقه، إذا أمكن التغلب على عقبة ما، أو بعض العقبات التي تقف في طريق هذه التنمية.
وتتلخص العقبات التي كان النقاش يدور حولها في عجز أجهزة التمويل الزراعي، وتخلف وسائل الري والصرف والمشاكل التي تترتب على العلاقات الإنتاجية الخاصة بملكية الأرض أو بالعلاقة بين ملاكها ومستأجريها، وجهل المزارعين للمسائل المرتبطة بنشاطهم من ناحيتي الإنتاج والتسويق. ويبدو أن مثل هذا الاعتقاد، من الناحية
الاقتصادية البحتة، قائم على أساس ظهور تناقص الغلة بشكل واضح في الزراعة، خاصة وأن تقنية الإنتاج الزراعي ثابتة تقريبا. وهذا الرأي وإن كان يبدو صائبا من الناحية النظرية، إلا أن فرضية ثبات تقنية الإنتاج الزراعي فرضية يشوبها الشك وعدم اليقين، لأن تطور التقنية الإنتاجية ظهرت بشكل واضح وهام في النشاط الزراعي كما هو الحال بالنسبة للنشاط الصناعي. مما يجعل من الضروري الاهتمام الكبير بالقطاع الزراعي عند تحليل عملية التنمية الاقتصادية، ويجب أن تنال وافر حظها في ذلك بما قد يفوق باقي القطاعات الأخرى(نظرا لطبيعة العمل الزراعي، مثلما أشرنا سابقا).
وحري بنا في هذا الصدد لفت الانتباه إلى خطورة إهمال الزراعة في مشاريع التنمية الاقتصادية، وتركيزها على المشاريع التي تُكون رأس المال الاجتماعي الثابت (كالمدارس والمستشفيات والطرق ..). وما يترتب عنه من تضخم يصاحب مثل هذه المشاريع، وبالتالي يحد من الانتعاش الحقيقي لعملية التنمية الاقتصادية، حيث تميل المداخيل نحو الارتفاع دون أن تتزامن مع ذلك زيادة موازية في توفر السلع الاستهلاكية، خاصة إذا كانت مثل هذه السلع تستورد من الخارج بالعملة الأجنبية النادرة أصلا. ولعل السبب في الإقبال على إقامة مثل هذه المشاريع (الجذابة) من طرف القائمين على التنمية الاقتصادية، هو أنها تستجيب لطموحات عامة الناس وهي بذلك تعتبر وسيلة فعالة للدعاية، كما أنها غالبا ما تلقى تأييد الهيئات الدولية وتحظى بمساعدتها، بسهولة.
وإهمال مثل هذه المشاريع يكلف الدولة فقدان مصادر خارجية هي في أمس الحاجة إليها لدعم نشاطها الاقتصادي، وعليه ينبغي على الدولة أن تتجه نحو ترقية مثل هذه المشاريع تماشيا لحاجات النمو الحاصلة، ولكن دون إهمال للقطاع الزراعي.
ورغم انتشار مثل هذه التيارات الفكرية ـ التي تقلل من شأن القطاع الزراعـي ـ إلا أنها قوبلت من جانب الكثير من علماء الاقتصاد بالعديد من التحفظات كونها ترتكز على تحليل يتسم بالقصور .وكانت هذه الآراء المعارضة تستند إلى أن هناك علاقات تبادلية قوية ما بين التنمية الزراعية من جانب والتنمية الصناعية من جانـب آخـر؛ حيـث أن التنمية الزراعية تحتل حجر الزاوية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، كما أنها تلعب دوراً رئيسياً في تسيير سياسات التوسع الصناعي في اتجاهات عدة؛ ولهذا تصـبح أهميتها كبيرة في تنمية مقدرات الدول النامية والمتخلفة للخروج من هـذه الوضـعية.
وفي هذا الصدد لا ينبغي لمثل هذه الدول انتظار المعجزة، وإنما الانطلاق مـن الأرض، وهي متوفرة كمادة خام لدى الجميع، وزراعتها بالوسائل البسـيطة المتـوفرة محليـا، والسعي في ترقية ذلك باستمرار، مما يساهم ولو تدريجيا في تلبية بعـض الاحتياجـات اللازمة لحد الكفاف وتجاوز الحلقة المفرغة من التخلف والفقر، وبالتالي تجاوز وضعية انعدام الأمن الغذائي. ولهذا لابد أن تنال الزراعة ما تستحقه من الاهتمام فـي مشـاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، نظرا لأنها النشاط الاقتصادي الأساسي في الدول النامية حيث يعمل فيها مابين 50و %80 من سكان هذه البلدان.
وخلاصة القول أن تنمية الزراعة يعتبر أمرا لابد منه من أجل أن يقوم القطاع الزراعي بالدور المنوط له في مجال التنمية الاقتصادية. ومن أجل بدء عملية التنمية هذه
لابد من استغلال الموارد المتاحة ولو كانت بسيطة بشكل أكثر كفاءة وفعالية، ولضمان استمرارية التنمية يجب السعي على زيادة الموارد المتاحة وتطوير الخدمات الإنتاجية وإدخال التكنولوجيا الأكثر تطورا في العملية الإنتاجية. ولتحقيق هذه الغاية يكون من المحتم على أجهزة الدولة أن تضع سياستها الاقتصادية وأطرها التنظيمية والمؤسسية لتتوافق مع احتياجات ومتطلبات عملية التنمية، لتضمن لها قوة الدفع نحو الهدف المرسوم.